مواقيتُ المدينةِ … وتحدِّي التصميمِ
مصنف فى :مقالاتيمرُّ الزمنُ على المدن تاركاً أثره على البشرِ والحجرِ، ولكنَّ الزمنَ نسبيٌّ وتأثيره يتفاوت من مكانٍ إلى آخر، ومن الملاحظ بأنَّ التغييرات العلمية والتقنية تُلقي آثاراً كبيرةً على مفهوم الزمن، كما تؤثر بشكلٍ مباشرٍ على حياةِ النَّاسِ في كلِّ مكانٍ، فالحياةُ في الرِّيف تختلفُ عن حياة المدينةِ من جهة التعارفِ على المواقيت والحاجة لسرعة الحركةِ، ففي المجتمعِ التقليديِّ كانتِ المواسمُ تحدِّد طبيعة استخدام المكان، وكانت مواقيتُ الصلاةِ بالنسبة للمسلمين تُقسِّمُ أنشطة اليوم.
ومعَ الحداثة وتغيُّر أنماطُ العمل، أصبحت طبيعةُ العمل روتينية، وغدتِ الساعةُ هي التي تحدد مواعيدَ الناسِ، وكذلك غيَّرت وسائل النقل من مفهوم الناس للزَّمن، فبعد أنْ كات سرعة المشي تحكم فَهْمَ الناسِ للزمن، أصبحت سرعةُ السيارةِ هي من ينظِّم طبيعة المواعيدِ بين الناس.
كذلك فإنَّ الهاتف النقال أحدث نقلةً كبيرةً في مجال التواصل، فقد عمل على إلغاء الحواجز بين الخاصِّ والعامِّ، بل يمكن القول أنَّه ألغى مفهوم المكان كليًاً، حيث أصبحت أنشطة الناس تتمَّ في أيِّ وقتٍ وأيِّ مكانٍ، وعلى ذلك فَقَدَ المكان الحقيقي قيمته.
حتى المباني العامة التي كانت في الماضي تُصمَّمُ وتُبْنَى لتبقى، إذ كانت تُصمَّم بعنايةٍ فائقةٍ وتفاصيلَ دقيقةٍ تُتِيح للماشي على قدميه أنْ يتمعنها بعنايةٍ، ويستمتعُ بواجهاتها، أمَّا اليوم أصبحت المباني تُصمَّم بسرعةٍ وتُبنى لتعيش أربعين سنة فقط، كما لم يَعُد من الضروري إثراؤها بالتفاصيل؛ وذلك لكون الإنسان المسرع من أمامها أو بعيداً عنها لن يتمكنَ إلا من رؤية شكلها العام.
إنَّ الأماكن والمباني تحمل الذاكرة والمعنى والتاريخ؛ لذلك تحرص المدن على المحافظة على الأماكن التراثية والمباني التاريخية، بل تتعدى ذلك إلى المحافظةِ على المباني الحديثة ذات القيمة المعمارية الفريدة والمميزة.
إننا بإمكاننا استيراد الحجر والتقنية، ولكننا لا يمكننا شراء التاريخ والذكريات والمعاني المتجذرة في الأرض، هذه فقط التي تحمل سر الخصوصية وصناديق الماضي ومفاتيح المستقبل.
لذا فنحن بحاجة لإعادة القيمة لمفهوم الزمان والمكان من خلال العناية بمدننا وأماكننا العامة ومبانينا؛ لأَّنَّها تصنع المكان الذي نحيا فيه، ومتى ما صُمِّمَت بعنايةٍ يمكنها أن تخلق بيئة غنية تعيدنا إلى عالم الواقع وتُثري تجربتا اليومية.