الرئيسية » مقالات / مدينة البعد الواحد

مدينة البعد الواحد

مصنف فى :مقالات
  • زيارات : 935 | تعليقات : 0
  • بتاريخ : 6 مارس 2018

مع الحداثة والتَّقدم تتبنى مُدنُنا نماذج عالمية في الإدارة والتخطيط، وتفقد الكثير من ميزاتها وتتحول تدريجياً إلى ما يمكن أن نطلق عليه (مدينة البعد الواحد).

ومدينة البعد الواحد مدينة شرسة تكون الحياة فيها قاسية، فيما يلي أتطرق لبعض صفاتها:

في مدينة البعد الواحد يكون الاقتصاد هو القائد، والمحرك، وهو المرجعية، ويؤكد على أسبقيَّة البعد المادي على الإنسان، وفي مدنية البعد الواحد يكون النُّمو الكمي هو الأهم، وتكون المصلحة المادية هي الأساس، وتتحول المدينة كلها إلى مصنعٍ منتجٍ، أو سوقٍ للاستهلاك، وتعمل يد الاقتصاد الخفية على ضبط إيقاع الحياة في المدينة، وفي هذه المدينة تُعطى الأولوية للعلاقات التعاقدية على العلاقات الإنسانية، وقد يظن الفرد في هذه المدينة أنَّه حرٌّ، حيث أنَّ مجال الاستهلاك واسعٌ، ولكنَّ الواقع يؤكد أنَّه مقيَّدٌ محدودٌ بالخيار الوظيفي إلى أبعد حدٍّ، غير قادر على النقد والاحتجاج وليس أمام الفرد سوى التَّكيُّف مع الأمر الواقع.

إنَّ مدينة البعد الواحد تسعى للتَّنمِيط في كل مناحي الحياة، وتلغي بالتالي شخصية الأفراد وهوياتهم الخاصة، وتؤمن بأنَّ هناك حلولاً علميةً وهندسيةً يمكن تعميمها على الجميع، وبالتالي فهي تحارب التَّميُّز والتَّفرُّد والتَّمييز، وتعرف ظاهرة التنميط ” بأنَّ كثير من المنتجات الحضارية تصبح متشابهة ونمطية؛ بسبب الإنتاج الصناعي السلعي الآلي الضَّخم … والتَّنمِيط في المنتجات الحضارية يُؤدِّي إلى تنميط في أسلوب الحياة العامة والخاصة”.*

فالتَّنمِيط بالتالي يقضي على الإنسان وحريته، والإنسان بطبيعته يحاول مقاومة إجراءات التنميط والاحتجاج عليها من خلال كسر القوانين واللُّجوء للعنف والإدمان وحتى الانتحار في بعض الأحيان !

والمدينة قد تسعى للتَّنمِيط تحت شعارات العدالة أو التنظيم، ولكنَّ الواقع يؤكد أنَّ التَّنمِيط هو أحد أدوات هيمنة السوق والاقتصاد وروح البعد الواحد على المدينة.

فمدينة البعد الواحد تتغول على المجال العام والخاص، وتعمل على تضييق مساحات حرية الأفراد، وتنحصر مجالات التعبير فيها على الاستهلاك، والتعبير عن الأملاك، ويتمُّ فيها تهميش الروحانيات والثقافة الرَّصِينة والتعبيرات السياسية والاجتماعية.

كما أنَّ من سمات مدينة البعد الواحد، تسلُّط البيروقراطية، حيث يتوه الإنسان بين مجموعةٍ متشابكةٍ من الإجراءات الدقيقة والمعقدة، ويشعر بأنَّه نكرةٌ غير قادرٍ على التَّأثير في المواقف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحيطة به، ويشعر بالعجز التام إزاء ما يتعرَّض له من ظلمٍ، لا سيما عجزه في مواجهة هذه الإجراءات التي تعمل على هدر جهده ووقته في معاملات قد لا يدرك مغزاها، وتتفاقم معاناته وهو يرى وقته يضيع، مع أنَّه أثمن ما يملك.

ولعلِّي في المقالات القادمة أتطرَّق في تفصيلٍ أكثر لكلِّ سمةٍ من سمات مدن البعد الواحد.

 

*بعض الأفكار مستوحاة من كتب الدكتور عبدالوهاب المسيري.

+ وسوم الموضوع :

إكتب تعليقك